عبد العزيز الخبشي – أزمة الصندوق المغربي للتقاعد..

يشهد الصندوق المغربي للتقاعد أزمة بنيوية غير مسبوقة، تهدد بزعزعة أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي في البلاد. فمنذ سنوات، تتراكم المؤشرات السلبية التي تؤكد اقتراب النظام من نقطة الانهيار المالي، نتيجة اختلالات متداخلة تعود جذورها إلى غياب الإصلاحات الاستباقية، وتفاقم الفجوة بين المتدخلين، وتراكم السياسات الترقيعية على حساب رؤية شمولية متوازنة. وتحولت هذه الأزمة من مجرد خلل في التوازنات المالية إلى قضية رأي عام تطرح أسئلة وجودية حول مستقبل منظومة الحماية الاجتماعية، ومدى التزام الدولة بمسؤولياتها تجاه الأجراء والمتقاعدين على حد سواء.
التحليل الموضوعي لهذه الأزمة يقتضي تجاوز القراءة التقنية الضيقة، والانطلاق من رؤية منهجية تدمج الاقتصاد بالاجتماع، وتستحضر البعد التاريخي في تشكل العلاقة بين الدولة وموظفيها. فالصندوق المغربي للتقاعد لم يُحدث كآلية استثمارية أو تجارية، بل كترجمة مادية لعقد اجتماعي بين الإدارة وموظفيها. غير أن تطورات العقود الأخيرة كشفت عن انحراف خطير عن هذا المنطق، حيث جرى التعامل مع التقاعد كمجرد عبء مالي، بدل اعتباره حقاً مكتسباً وأداة لإعادة توزيع الثروة وضمان الكرامة بعد سن العمل.
خلال العقدين الماضيين، برزت مؤشرات أولية على الأزمة من خلال تراجع نسبة المساهمين النشيطين مقابل ارتفاع عدد المتقاعدين، نتيجة لتقلص التوظيف العمومي، وارتفاع أمد الحياة، وتجميد الأجور، واستمرار نمط احتساب المعاشات بطريقة غير مستدامة. ومع مطلع الألفية، بدأت التقارير تتحدث عن عجز سنوي في الصندوق، ظل في البداية طفيفاً، قبل أن يتفاقم تدريجياً، خاصة مع غياب إجراءات جذرية. وقد جاءت تدخلات سنة 2016 كاستجابة متأخرة ومحدودة، اعتمدت منطق “تقني صرف” تمثل في رفع سن التقاعد ورفع الاقتطاعات وتعديل طريقة الاحتساب، لكنها لم تلامس الإطار المؤسساتي العميق للأزمة.
من المؤسف أن هذا الإصلاح الجزئي لم يحصن الصندوق ضد التدهور، بل كشف محدودية المقاربة المعتمدة، وأكد هشاشة الرؤية الحكومية التي انشغلت بالتوازنات المالية على حساب استشراف التحولات الاجتماعية. إذ لم تترافق الإصلاحات مع تحفيزات حقيقية في التوظيف العمومي، أو مراجعة شاملة لمنظومة الأجور والترقيات، أو إعادة الاعتبار لمبدأ التوزيع العادل للأعباء والحقوق. والأسوأ أن بعض المؤشرات الديمغرافية والاقتصادية زادت من تفاقم الوضع، حيث بات الصندوق يستهلك من احتياطاته المالية لتغطية النفقات، في غياب توازن مالي حقيقي.
وأمام هذا الواقع، طرحت الحكومة الحالية مشروعاً جديداً لإصلاح شامل يُعرض على أنظار البرلمان خلال الدورة الربيعية. ويتضمن هذا المشروع حزمة من الإجراءات الهيكلية، أبرزها الرفع التدريجي لسن التقاعد إلى 65 سنة، والانتقال إلى نظام نقطي يقوم على عدد النقاط المكتسبة طيلة المسار المهني، وتوحيد الأنظمة المختلفة في قطب عمومي موحد. كما يشمل إعادة النظر في طريقة احتساب المعاشات، ونسبة المساهمة بين الدولة والأجير، مع وعود بتحسين الحكامة وتعزيز الاستدامة.
غير أن هذا المشروع يواجه انتقادات حادة من النقابات والفاعلين الاجتماعيين، الذين يرون فيه استمراراً للنهج المالي الضيق، وتفريطاً في الحقوق المكتسبة. فرفع سن التقاعد يُعتبر إجراءً تعسفياً، خصوصاً في ظل هشاشة بيئة العمل وتدني الأجور، وغياب آليات لدعم الفئات المرهقة جسدياً ونفسياً. كما أن النظام النقطي، رغم وجاهته التقنية، يثير مخاوف من تعقيد إضافي، خاصة إذا لم يرافقه تحفيز مسارات الترقي، وضمان الشفافية والعدالة في توزيع النقاط.
الجانب الأخطر في هذا الإصلاح هو غياب مقاربة تشاركية حقيقية. فرغم إشراك النقابات في الحوار الاجتماعي، إلا أن مجريات المفاوضات كانت تقنية ومحدودة، وغابت عنها الشفافية والوضوح في عرض السيناريوهات والبدائل. بل إن الحكومة لم تُبدِ استعداداً فعلياً للتفاوض حول جوهر المشروع، بل اكتفت بعرضه كأمر واقع، مما عمّق الهوة بينها وبين ممثلي الأجراء، وزاد من منسوب التوجس والاحتقان الاجتماعي.
اقتصادياً، لا يمكن فصل أزمة الصندوق عن البنية العامة للاقتصاد المغربي، الذي يتميز بهشاشة كبيرة في سوق الشغل، وتفاوتات صارخة بين القطاعين العام والخاص، ومحدودية الإدماج المهني للشباب. كما أن النموذج التنموي القائم لم ينجح في خلق فرص عمل كافية ودائمة تضمن استقرار المساهمات في الصندوق. وبدون إصلاح شمولي يربط التقاعد بسياسات التشغيل والعدالة الجبائية والتحفيزات الاجتماعية، سيظل أي إصلاح مجرد تصحيح محاسباتي قصير الأمد.
على المستوى السياسي، تثير الأزمة تساؤلات جوهرية حول طبيعة الدولة، ووظائفها الاجتماعية. فالحكومة الحالية، بانتمائها إلى تيار ليبرالي محافظ، تبدو أكثر انشغالاً بالتوازنات المالية وضغوط المؤسسات الدولية، على حساب البعد الاجتماعي. وهذه المقاربة تُهدد بتقويض الثقة بين المواطن والدولة، وتكرّس شعوراً بعدم الإنصاف، وتُضعف التماسك المجتمعي.
في ضوء ما سبق، فإن إنقاذ الصندوق المغربي للتقاعد يتطلب تجاوز الحلول الظرفية، والذهاب نحو إصلاح حقيقي شامل، ينبني على حوار وطني واسع، ومقاربة متوازنة تدمج البعد المالي بالاجتماعي، وتعيد الاعتبار لقيمة العمل، ولحقوق المتقاعدين كجزء من كرامة المواطن. كما يجب أن يُدرج هذا الإصلاح ضمن رؤية استراتيجية لإعادة بناء الدولة الاجتماعية، وتثبيت تعاقد جديد بين الأجراء والدولة، قوامه الثقة، والعدالة، والاستدامة.
إن مستقبل منظومة التقاعد في المغرب ليس شأناً محاسباتياً فقط، بل هو مرآة لهوية الدولة، وطبيعة علاقتها بمواطنيها. وأي إصلاح لا يأخذ هذا البعد في الحسبان، سيظل ناقصاً، وربما خطيراً على السلم الاجتماعي.