محمد بوفتاس – هل كان الربيع العربي خدعة؟

الربيع العربي كان عند كثير من الناس، خاصة في بداياته، بمثابة بارقة أمل ونافذة للتغيير الحقيقي، كأنه نَفَسُ حرية بعد عقود من القهر والاستبداد. الناس خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالكرامة، بالعدالة الاجتماعية، بالحرية، بلقمة العيش، وكأن لعنة الصمت الطويل انكسرت فجأة، فخرجت الشعوب تصرخ بما كانت تهمس به في بيوتها. لكن، بعد سنوات من الحراك والفوضى وسيل الدماء والتشرّد والانهيارات الاقتصادية، أصبح السؤال الحتمي يطرح نفسه بحدة: هل كان الربيع العربي فعلاً ربيعاً؟ أم كان خدعة كبرى أُعدّت بعناية، أو على الأقل استُغلت بدهاء، لتُغرق الشعوب في دوامة بلا قرار؟
حين نعود بالذاكرة إلى اللحظة الأولى، نرى كيف بدأت الحكاية بعفوية. شاب في تونس يُحرق نفسه احتجاجاً على الظلم، فتشتعل النار في جسده وفي شوارع البلاد معه. ومن تونس إلى مصر، فليبيا، فاليمن، فالبحرين، فـسوريا… شعوب تتحرك، أنظمة تتساقط، وعيون العالم تراقب. بدا الأمر كأنه موجة تحرر تاريخية لا رجعة فيها. ولكن، سرعان ما تسربت رائحة الخديعة. فكلما سقط نظام، لم يأتِ بديله إلا بأسوأ منه، أو بحالة من الفوضى والفراغ تفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية، والميليشيات المسلحة، والانقسامات الطائفية، والتقاتل بين أبناء الوطن الواحد.
في ليبيا، سقط القذافي، ولكن البلاد دخلت في فوضى مسلحة لا تنتهي، وأصبحت مرتعاً للميليشيات والسلاح والمصالح الأجنبية المتصارعة. في سوريا، تحوّلت الثورة إلى حرب بالوكالة، تداخلت فيها المصالح الدولية بشكل مرعب، وأصبح الدم السوري يُسال بسخاء على مذبح الجغرافيا السياسية. في اليمن، انقلب الربيع إلى شتاء دامٍ بين الحوثيين والتحالفات، فصار المواطن اليمني ضحية لصراعات معقدة لا يفهمها حتى من أشعلوها. أما مصر، فشهدت انتقالاً سريعاً من التفاؤل بالحرية إلى عودة قبضة أمنية أكثر شراسة، وكأن عجلة الزمن رجعت للخلف.
الخيبة الكبرى ليست فقط في ما حدث، بل في كيف تم توظيف الحراك الشعبي النبيل لخدمة مشاريع أكبر من الشعوب ذاتها. القنوات الإعلامية الكبرى لعبت دوراً محورياً في تضخيم مشاهد معينة، وتوجيه المزاج العام، بل والتحكم في من يُقدَّم كـ”ثائر”، ومن يُسحق كـ”فوضوي”. الأموال ضُخت من جهات مشبوهة، بعضها أراد نشر الفوضى للسيطرة على مقدّرات الشعوب، وبعضها استغل الحراك لتمرير مشاريع التقسيم أو تفكيك الجيوش، أو إعادة رسم الخرائط. حتى الحركات الإسلامية التي ظهرت في الصورة بمثابة صوت المستضعفين، سرعان ما تورطت في صفقات السلطة أو اصطدمت بحقيقتها عندما اقتربت من الحكم، فتكشف أنها لم تكن تحمل مشروعاً حقيقياً لبناء دول مدنية، بل كانت تسعى إلى التمكين باسم الدين.
الشعوب التي خرجت تهتف “الشعب يريد إسقاط النظام” لم تكن تعلم أنها تسقط أنظمة لتقع في يد أنظمة أشد، أو في هوة لا نظام فيها. والغرب الذي هلل للثورات في الإعلام، كان في الكواليس يعقد الصفقات ويحدد الأدوار، ويرسم خطوطاً حمراء وخضراء لكل طرف. وكلما اشتدت الفوضى، كلما زاد التبرير للتدخل، إما باسم “حقوق الإنسان”، أو باسم “محاربة الإرهاب”، أو بحجة “حماية الأقليات”.
ولعل أكبر دليل على كون الربيع العربي خدعة، هو حجم المآسي التي خلفها. ملايين القتلى، عشرات الملايين من اللاجئين، اقتصادات منهارة، بُنى تحتية مدمرة، ونفور بين الشعوب والسلطة بلغ مستويات غير مسبوقة. لم تُبنَ ديمقراطيات، ولم تتحقق العدالة الاجتماعية، بل حتى الفكرة نفسها صارت مشكوكاً فيها. لقد أصبح الناس، في كثير من البلدان، يترحمون على ما كان، لا حباً في الطغاة، بل لأن الفوضى جعلت الاستبداد يبدو أحياناً كنعمة!
الربيع العربي كان حلماً جميلاً اختُطف في منتصف الطريق. هل كان مؤامرة منذ البداية؟ ربما، وربما لا. لكن المؤكد أن نوايا الشعوب لم تكن سيئة، بل طيبة ونبيلة، والمشكلة كانت في من استغل تلك النوايا لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالمطالب الأصلية. ولأن التاريخ لا يُكتب دائماً من قبل المنتصرين، بل أحياناً من قبل الضحايا أيضاً، فإن ما جرى يجب أن يُقرأ بعيون النقد، لا بعين الحنين ولا بنبرة الخوف. ما حدث كان درساً قاسياً، أن التغيير لا يتم بالصراخ وحده، ولا بالحماسة وحدها، ولا حتى بالنوايا الحسنة. التغيير يحتاج فهماً عميقاً للموازين، وللقوة، وللتاريخ، ولمن يحرك الخيوط من الخلف.
في النهاية، قد يكون الربيع العربي خدعة في نتائجه، لكنه كشف حقائق كثيرة. كشف حجم الغضب المكبوت، والانفجار الممكن في أي لحظة. كشف هشاشة الأنظمة، وكشف أيضاً سذاجة بعض الشعوب، وقوة الإعلام، ودهاء المصالح. لكنه أيضاً، وربما أهم من كل هذا، كشف أن الشعوب لم تمت، وأن النار ما زالت تحت الرماد.