مطبخ الكتابة” للكاتبة المتألقة ماجدة الفلاحي

هذه المرة، وخلافا للسنوات السابقة، حيث كنت أخصص زوال اليوم لأشغال المطبخ، وما بعد الافطار للكتابة والقراءة، فأفصل بين عالمين يبدو أن ما يجمعهما من توافق وتضاد يتخطى التحديد والتعريف والتصنيف.
هذه المرة قررت أن أجمع بين العالمين في الوقت نفسه، فهيأت لنفسي جلسة في ركن من الصالون، على بعد خطوات قليلة من المطبخ، وهناك وضعت كل ما سأحتاجه لقضاء شهر يزيد في إثراء معارفي وإغناء تجربتي في القراءة والكتابة معا، اخترت كتبا بعينها ووضعت جنبها حاسوبي وما يكفيني من أوراق وأقلام، ووسائد ومخدات تجعل مقامي مريحا، وفي الجهة الأخرى، أقصد المطبخ، كان كل شيء جاهزا كذلك، كما هي عادة المغربيات في التحضير ل” رمضانتهن” بإعداد أصناف متنوعة من الأطاييب و”الشهيوات” التي ترافق كل الوجبات.
لقد صرت أعيش بين ممارستين أليفتين محبوبتين عندي:
“الكتابة والطبخ” ، وأقنعت نفسي إقناعا كاملا، بل وصرت على يقين تام بأن الطبخ كتابة من نوع خاص، كتابة لها آلياتها وتقنياتها ولها كناياتها واستعاراتها ومحسناتها، وأن الوجبات نصوص تقرأ بكيفية مختلفة، لكنها حتما تقرأ وتتذوق وتترك أثرا في النفس والقلب.
هذا اليقين نفسه هو الذي أصبح عندي عن الكتابة، فأصبحت أنظر إلى كل نص أكتبه كما أنظر إلى وجبة أحضرها، فأسال نفسي هل أعطيتها حقها من المقومات الفنية، أم قصرت في ذلك، وهل كانت مقادير التوابل مناسبة أم بالغت وأفرطت في ما أضفت إلى النص من محسنات.
وبين هذا وذاك كانت تتوالى أيام الشهر علي وأنا أمر من جلستي في الصالون إلى وقفتي في المطبخ، سعيدة تارة بما كتبت او طبخت، وحزينة تارة أخرى لأن الطبخ سرق مني فكرة أو جعلني أضيع فقرة، أو لأن الكتابة جعلتني أحرق طبخة أو أغيرها تماما لانها نضجت أكثر من المطلوب.
ثم حائرة في أمري تارة ثالثة، أقف في الوسط بين الصالون والمطبخ وأردد في نفسي لازمة لا تفارقني:
( واش نطيب ولا نكتب، واش نطيب ولا نكتب)
أقول ذلك وأعيده وكأنني أغني قبل أن أحسم الأمر لجهة المطبخ أو لجهة الصالون.
وإن كان لي من شيء أتقاسمه مع القراء في أواخر هذا الشهر الفضيل من هذه التجربة الفريدة التي عشتها بين الحاسوب وطنجرة الضغط. فهما تجربتان تأثرت بهما أيما تأثر، ولعل القارئ سيجد فيهما ما يفيد.
التجربة الأولى:
كل مساء كنت أنتظر اجتماع الأسرة حول مائدة الإفطار بفارغ الصبر، لتتذوق الأطباق، وتخبرني عن منسوب الحلاوة أو النضج أو ” البنة” لأنني لم أكن أستطيع تقدير ما تطبخه يدي بنفسي، لقد كانت الأسرة هي المتذوق الأول، وكذلك في ما أكتبه من نصوص، فأنا أنتظر دائما تعليق القراء لأعرف منه تقييمهم لما كتبت، إن القارئ عندي يقوم مقام من يتذوق طبختي، ولذلك فأنا دائما مشدودة إلى تعليقه على نصوصي وليس على شخصي، هل سيستحسن عملي أم سيستهجنه، وليس ذلك لأنني غير واثقة مما أكتب، بل لأن رأي المتذوق مهم عندي، فكما أنني لا أطبخ لكي آكل وحدي، بل أطبخ من أجل نفسي ومن أجل أسرتي، فكذلك لا أكتب لنفسي فقط، بل أكتب من أجل الآخرين أيضا، أكتب أجمل ما أعرفه وأحس به من أجل القراء، وكأنهم أبنائي وإخوتي.
التجربة الثانية:
وهي الأعظم والأهم، ذلك اليوم، انهيت أشغال الطبخ، وهيأت مائدة الإفطار، ورتبت الصحون والكؤوس والفوط والملاعق، كل شيء في موضعه، ثم قصدت ركني الأثير في الصالون لأكتب شيئا ما، مما أسميه مذكرات الشعيبية، وهي المذكرات التي أحكي فيها عن نضالات المرأة السلالية، وأخواتها من النساء القرويات.
لم أكد أتخذ لنفسي مجلسا يريح أضلعي من تعب النهار ، حتى شرعت أتأمل مائدة إفطاري من بعيد، وأنا أفكر في كل أولئك الذين لن يتحلقوا الليلة على مائدة مثلها، فكرت في ضحايا الحروب الذين يعيشون عرضة للقصف والعسف، وفكرت في ضحايا الزلازل الذين يعيشون عرضة للأوحال والأمطار، وفكرت في المرضى والجوعى والفقراء، فكرت في الأطفال الذين يعيشون بلا سقف يأويهم ولا موائد يتحلقون حولها ولا أيد تحنو عليهم، وبقدر ما كانت حرقتي كبيرة ، كانت جمرة الكتابة ملتهبة، وأعترف أنني ليلتها كتبت كثيرا، ولم أتذوق طعم الأكل ولا طعم النوم، بدت لي مائدة الطعام باهتة، وكل ما عليها حامضا ومرا، وما من حكمة وراء ذلك سوى أنك لن تتذوق طيب العيش أبدا، ما دام غيرك يعيش في الضنك، فاللقمة الطيبة لا تحلو إلا إذا استمتع بها الجميع.