تونس بين قبضة الاستبداد والنفوذ الخارجي: قراءة تحليلية في مآلات حكم قيس سعيد

تونس – ليلى بن الرايس

منذ أن قرر الرئيس التونسي قيس سعيد تعليق عمل البرلمان في 25 يوليو 2021، وأخذ على عاتقه إدارة الدولة بمراسيم رئاسية، تشهد تونس مسارًا سياسيًا غير مسبوق في تاريخها الحديث. بعد أكثر من ثلاث سنوات على هذا التحول، يبدو أن البلاد دخلت مرحلة حكم فردي، تُهمش فيها المؤسسات، وتُقمع فيها المعارضة، ويُستعمل فيها القضاء كأداة سياسية، وسط حديث متزايد عن نفوذ إقليمي متصاعد خاصة من قبل الجزائر.

 

سلطة بلا ضوابط: مؤسسات معلّبة في خطاب واحد

منذ ما يسمى بـ”تصحيح المسار”، عمد الرئيس سعيد إلى تركيز صلاحياته في مؤسسة الرئاسة، مستفيدًا من ضعف المعارضة وتفكك الأحزاب السياسية، وغياب التوازن بين السلطات. الدستور الجديد، الذي تمت المصادقة عليه في استفتاء يوليو 2022 بنسبة مشاركة ضعيفة (27.5% حسب هيئة الانتخابات)، أتاح له إحكام قبضته على مفاصل الدولة.

لم يَعُد البرلمان فاعلًا حقيقيًا، والمحكمة الدستورية – الضامن الأساسي للتوازن – لم تر النور، في حين باتت وسائل الإعلام الرسمية والعديد من المنابر الخاصة تصطف خلف السلطة.

 

القضاء: أداة تصفية أم سلطة مستقلة؟

واحدة من أبرز التحولات التي تعيشها تونس اليوم هي ما يعتبره مراقبون “تسييسًا غير مسبوق للقضاء”. فخلال سنتي 2023 و2024، أُحيل العشرات من القضاة على التقاعد القسري أو العزل، دون مراعاة لمبدأ المحاكمة العادلة. كما طالت الاعتقالات عددًا من القضاة الذين وُجهت إليهم تهم “الفساد” أو “التآمر على أمن الدولة”، دون أدلة دامغة وفقًا لتقارير حقوقية.

وفي قضية “التآمر على أمن الدولة”، لا تزال جلسات المحاكمة تُعقد خلف الأبواب المغلقة، ويتواصل توقيف شخصيات سياسية بارزة، من بينهم نور الدين البحيري (القيادي في النهضة)، ورجل الأعمال كمال اللطيف، وغيرهم من رموز المعارضة.

 

الاعتقالات والتضييق على الصحافة وحرية الرأي

تشهد البلاد تصعيدًا في وتيرة التضييق على الصحافة وحرية التعبير. في 2024 وحدها، وثقت منظمات مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” أكثر من 60 حالة توقيف أو استدعاء لصحفيين ومدونين، بسبب منشورات اعتُبرت “مسيئة” للدولة أو للرئيس.

كما أُغلقت إذاعات محلية، وتعرضت مواقع مستقلة للحجب أو التضييق المالي، في خطوة اعتبرها المراقبون محاولات لخنق الأصوات المعارضة.

 

فساد مالي وإداري متفاقم رغم شعارات النزاهة

رغم تبني الرئيس سعيد خطابًا صارمًا ضد الفساد، تشير تقارير رقابية محلية إلى تزايد شبهات المحسوبية في إبرام الصفقات العمومية، خاصة في قطاعي الطاقة والبنية التحتية.

في مارس 2025، كشفت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (المُجمدة منذ 2021) عن تقرير مسرب، يفيد بأن 35% من العقود المبرمة خلال السنة المالية الماضية تمت دون احترام لمبادئ الشفافية أو المنافسة، ما يُثير تساؤلات عن مدى التزام السلطة بمكافحة الفساد فعلًا، أو استخدامه كشعار سياسي لتصفية الخصوم فقط.

 

النفوذ الجزائري: دعم غير مشروط أم تدخل مباشر؟

أخذت العلاقات التونسية الجزائرية بعدًا جديدًا منذ 2022. الجزائر، التي قدمت قروضًا وهبات لتونس تجاوزت 500 مليون دولار، تحولت إلى داعم سياسي ودبلوماسي قوي لقيس سعيد في المحافل الدولية.

ويشير محللون إلى أن الجزائر تُوظف هذا الدعم كوسيلة لتأمين نفوذها في القرار التونسي، مقابل دعم قيس سعيد لمواقف الجزائر الإقليمية، لا سيما في ملف الصحراء الغربية.

ويذهب البعض إلى حد الحديث عن “وصاية سياسية غير معلنة”، خاصة بعد الزيارات المتكررة للقيادة الجزائرية إلى قصر قرطاج، وتطابق مواقف البلدين في ملفات إقليمية حساسة.

 

الاقتصاد يئن: بطالة، تضخم، وهجرة

لم تقتصر التداعيات على الجانب السياسي، بل امتدت إلى الاقتصاد. بلغت نسبة البطالة في تونس خلال الربع الأول من 2025 نحو 17.2%، بينما سجل التضخم مستويات قياسية وصلت إلى 11.4%، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.

وازداد عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين نحو أوروبا بنسبة 38% خلال 2024، في دلالة على اليأس المتزايد من الإصلاح الداخلي. ووسط انكماش الاستثمارات وهروب رؤوس الأموال، تبدو الحكومة عاجزة عن طرح حلول ناجعة.

 هل ما زال هناك أمل؟

بين قمع الداخل وضغوط الخارج، تعيش تونس واحدة من أصعب لحظاتها منذ الثورة. يصفها البعض بأنها “عودة إلى المربع الأول”، لكن بأدوات جديدة وبخطاب شعبوي مغاير.

إن ما يحدث اليوم لا يمكن اختزاله في شخص الرئيس فقط، بل هو نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية، لكن سعيد أعاد ترتيبها على مقاس مشروعه الشخصي، الذي لا يبدو أنه يُبالي كثيرًا بمخاطر العزلة أو انفجار الأوضاع.

ويبقى السؤال: هل يتجه التونسيون إلى طريق اللاعودة؟ أم أن يقظة جديدة قد تعيد التوازن قبل فوات الأوان؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى